الأرشيف الوطني يوثق ذكريات الحُجَّاجِ الإماراتيين ورحلاتهم قديماً

الأرشيف الوطني يوثق ذكريات الحُجَّاجِ الإماراتيين ورحلاتهم قديماً

ابوظبي فى 5 اغسطس / وام / وثق قسم التاريخ الشفاهي في الأرشيف الوطني في مقابلاته مع الرواة من كبار المواطنين الذكريات الخالدة لدى الرعيل الأول من أبناء الإمارات عن رحلة الحج قديماً من الإمارات إلى الديار المقدسة لأداء الفريضة التي شرعها الإسلام، وتمسك بها أبناء المجتمع الإماراتي قديماً قدر المستطاع حيث تكبدت الأجساد فيها المشقة وهي تمضي شهوراً على ظهور المطايا تجتاز دروب الصحراء وفيافيها وقفارها في ظروف بالغة الصعوبة ساعية إلى بيت الله الحرام، وإلى المدينة المنورة.

من تلك الذاكرة يسرد لنا خليفة سعيد خلف الظاهري من العين، وهو أحد الرواة الذين وثقت مقابلة التاريخ الشفاهي ذكرياته: كنا نذهب إلى الحج على ظهور الركاب /الإبل/، وكان الحجيج يذهبون من أبوظبي ومن العين، وتستغرق الرحلة إلى مكة شهرين تكون مشوبة بالحذر من قطاع الطريق، وكان الحجاج يتناوبون على حراسة القافلة عندما يهجعون ليلاً في الصحراء.

وفي مشهد آخر يروي علي أحمد شاهين القصيلي المنصوري من الظفرة أن أحد الحجاج أخبره بأنه حين وصل مكة هو ورفاقه صلوا في أحد مساجدها، ثم تحولوا إلى ركابهم، فبادرهم "المطوع" سائلاً: من أين أتيتم؟ فأخبروه، فسألهم: كم شهر استغرق طريقكم؟ فقالوا: اليوم نكمل الشهرين، قال وإيابكم يستغرق شهرين؟ قالوا: نعم، قال: هل أنتم في داركم /بلدكم/ تعينون الرفيق؟ وتساعدون الجار؟ وتكرمون الضيف؟ فقالوا: هذه عادات طبيعية بالنسبة لنا، فقال: والله إنكم مأجورون، وحاجون وأنتم في دياركم، /أي أن من كان يتمتع بتلك الصفات فله أجر الحاج/.

وفي رواية أخرى من مقابلات التاريخ الشفاهي، يقول خالد عبد الله سليمان الهنائي من أبوظبي: كنا نذهب إلى الحج على البوش "الإبل"، والذي ينوي الحج يتفق مع صاحب البوش، وينضم إلى مجموعة يتفق معهم، إذ لم تكن حينذاك السيارات متوفرة، وكانت الطائرات موجودة ولكنها قليلة ولا يحجّ بالطائرة إلا من كان لديه المال.

وتحكي الراوية كليثم كشيش مبارك الشامسي من العين عن ظروف الترحال فتقول: يخبرني أبي أن رحلة الحج تستغرق احيانا 90 ليلة، وكانوا يخرجون من بلدنا لأجل طاعة الرحمن، بعضهم يصل إلى الحج، ويُتوفى بعضهم فى الطريق، فيما كان الحجاج يخرجون للسفر حاملين الأطعمة معهم التي تتلاءم مع أجواء الصحراء كالخبز اليابس "خبز الرقاق" والسمك الصغير المجفف "السحناة" والسمن والماء، ويمشون مع دليلهم العارف بدرب الحج؛ إذ لم يكن لديهم بوصلة.

وتتحدث الراوية فاطمة سالم راشد الكتبي من العين عن الحج فتحمد الله أنها حجت واعتمرت تسع مرات، وجميع رحلاتها إلى الحج والعمرة كانت بالطائرة.

وفي كتاب /الحج رحلة في الذاكرة/ تقول الدكتورة عائشة بالخير مستشار البحوث في الأرشيف الوطني: لقد أسهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان –طيب الله ثراه- في تمكين أبناء شعبه والأمة الإسلامية من أداء فريضة الحج؛ فقد وثقت مجلدات /يوميات الشيخ زايد/ الصادرة عن الأرشيف الوطني مبادراته الإنسانية وتعزيزه لدور الإسلام وأركانه وتسهيل أداء فريضة الحج للناس، ففي عام 1980 أوفد 600 مواطن لأداء فريضة الحج على نفقته الخاصة، وقد وصل اهتمام الشيخ زايد إلى وفود الحجاج الذين ينتمون إلى دول إسلامية.

وتشير الدكتورة عائشة بالخير إلى أن الاهتمام بفريضة الحج لها جذورها الممتدة في الإمارات وهذا ما يشير إليه الرواة بما يعرف بـ "البروة" في الإمارات قديماً، وهي ورقة مكتوبة بها أمر يقبض بموجبه حاملها المخصصات المذكورة فيها، فيذهب من كان قاصداً الحج إلى مجالس شيوخ القبائل وأعيان البلاد للحصول على مؤونة الدرب من الأرز والطحين والسكر والقهوة؛ ولذا كانت مبادرة الشيخ زايد – طيب الله ثراه- لإيفاد الحجاج صوناً لكرامتهم، فهم يقدمون طلبهم عبر القنوات المعتمدة، والدولة تتكفل بتوفير جميع متطلباتهم ومعها الرعاية الصحية التي توفرها بعثة خاصة في مواسم الحج المتعاقبة.

وفي كتاب /ذاكرتهم تاريخنا/ الصادر عن الأرشيف الوطني توثق مقابلة التاريخ الشفاهي ما قاله الراوي راشد سيف ربيع بالحايمة الظاهري عن سلالة إبل تدعى "الحايّة" فقال "نحن نعتمد على الإبل في حياتنا، ونرعاها ونعتز بها، والإبل التي بحوزتنا الآن هي إرث أجدادنا لآبائنا ثم آلت إلينا ونحن سنورّثها أولادنا؛ وبذلك تتناقلها الأجيال المتعاقبة أباً عن جد، وإبلنا جميعها تنحدر من أم واحدة تسمى الحايّة "الحاجّة" لأن جدي ربيع امتطاها في رحلتين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج مع الشيخ محيميد آل سالمين المنصوري في إحداهما. وما لدينا من إبل الآن هي من سلالتها.

ويوثق كتاب /ذاكرتهم تاريخنا/ ما قاله الحاج سعيد أحمد ناصر بن لوتاه عن رحلته للحج فيقول: ذهبت إلى مكة لأداء فريضة الحج أول مرة عندما كنت في السادسة عشرة من عمري تقريباً، وأذكر أنها كانت في فترة حكم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وكان الذهاب على ظهور الركاب، خرجنا إلى الأحساء، ومنها توجهنا إلى الرياض، ثم إلى مكة المكرمة، وإلى المدينة المنورة، وسلكنا الطريق في العودة إلى شقرى ومنها إلى الرياض، ومن الرياض أعطتنا الحكومة سيارتي نقل كبيرة، فوصلنا الأحساء، ومن الأحساء ركبنا الحمير حتى العجير، ومن العجير ركبنا الزورق البخاري "لنج" حتى البحرين ومن البحرين ركبنا في "لنج" آخر حتى بلغنا بلدنا، وقد استغرقت الرحلة ذهاباً وإياباً ثلاثة أشهر.

ويتذكر الحاج سعيد أحمد ناصر بن لوتاه أنه لما ذهب إلى الحج برفقة والده، كان حول قصر الملك عبد العزيز كثير من الكتبة يكتبون للبدو طلباتهم من الملك قبل الدخول عليه، ويقول لوتاه: فذهبنا إلى كاتب من الكتبة ليكتب لنا الرسالة فقال أخبروني حاجتكم، فقال الوالد: أنا بامليك وأنت اكتب /أنا أملي عليك وأنت اكتب/ فاستغرب الكاتب من هذا الرجل البدوي وشكله ولباسه، وبدأ يكتب وكل لحظة ينظر الكاتب إلى وجه والدي، ثم سأله من أي جامعة متخرج؟ فاستغرب والدي من السؤال، فضحك والدي قائلاً: شو جامعة؟! وإن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على تغيّر نظام التعليم.

وفي كتاب /ذاكرتهم تاريخنا/ يتذكر الراوي عبيد راشد عبيد أحمد بن صندل آل علي كيف سافر من الشارقة إلى الكويت في خمسينيات القرن الماضي، ثم اصطحب والدته من الكويت للحج مع رحلات الحج بالسيارة، ويقول استغرقت الرحلة حوالي الشهر.

ويضيف الراوي: إنه من أجل السفر إلى الكويت عام 1955حصل على جواز السفر من الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم إمارة الشارقة /1924-1951/ وكانت الجوازات في تلك الأيام وثيقة بها بيانات الشخص، وأنه من رعايا إمارة الشارقة، وتذكر سنة ميلاده، وعلى الجواز عبارة: نرجو ونطلب من ممثلي الحكومات أن يسمحوا لحامله بحرية المرور، ويسهلوا له الصعوبات ويبذلوا له ما يحتاج إليه من المساعدة كما تقتضيه الصداقة.

وبذلك فإن روايات الذاكرة الشعبية ترصد لنا تفاصيل الماضي وتكاتف أبناء الإمارات على طريق الإيمان وفعل الخير، كما توثق تفاصيل بيئتهم التي أسهمت في تحقيق ذلك لا سيما شجرة النخيل التي اتخذوا من ثمارها قوتاً، والجمل الذي كان مطيتهم إلى الديار المقدسة.