بين الجفاف والتعديات الاستعمارية.. مواطنو الأغوار يحرمون من مياه العوجا

الأغوار (پاکستان پوائنٹ نیوز ‎‎‎ 27 مايو 2025ء) "النشرة البيئية لوكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، ضمن ملف النشرة البيئية لوكالات الأنباء العربية (فانا)"

بين عشية وضحاها وجد سكان التجمعات الرعوية والزراعية في منطقة العوجا بالأغوار أنفسهم أمام واحد من أصعب الأوضاع منذ سنوات؛ إثر جفاف نبعهم الأهم، الذي يُعد شريان الحياة الرئيس في المنطقة.

جاء جفاف النبع هذا العام مبكرًا جدًّا، حتى قبل بلوغ ذروة فصل الصيف، في دلالة خطيرة على ما تحمله هذه الظاهرة من أسباب عميقة، منها ضعف الموسم المطري وقلة الأمطار المغذية للمخزون الجوفي، إضافةً إلى تعديات الاحتلال الإسرائيلي، والمستعمرين، على مصادر المياه.

ويقول المواطن فرحان غوانمة -المقيم منذ سنوات طويلة في تجمع شلال العوجا ويعتاش من تربية الثروة الحيوانية- لوكالة "وفا": إن هذا العام يُعد من أقسى الأعوام التي مرت على التجمعات الرعوية في المنطقة وأكثرها صعوبة، إذ تعتمد بشكل أساسي على مياه نبع العوجا الذي يشكّل عصب حياة أساسي.

ويؤكد غوانمة أن عدّة ظروف اجتمعت هذا العام لتضاعف معاناة السكان، أبرزها ضعف موسم الأمطار الذي تسبب بجفاف النبع، إلى جانب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي والمستعمرين، التي تستهدف تهجير التجمعات البدوية من المنطقة.

ومن أبرز أشكال المعاناة التي تواجهها هذه التجمعات سياسة "التعطيش" التي ينتهجها الاحتلال بالتعاون مع المستعمرين، الذين لم يتوقفوا عن ملاحقة الرعاة والسكان، وحرمانهم من المراعي، واتباع أساليب متعددة للسيطرة على مصادر المياه، وفي مقدمتها نبع العوجا، الذي يشكل الشريان الحيوي لصمودهم.

يضيف غوانمة: "هذا العام وقعنا بين نارين؛ قلة الأمطار من جهة، وتعديات الاحتلال من جهة أخرى"، معتبرًا أن جفاف النبع لم يكن نتيجة عوامل مناخية فحسب، بل أيضًا نتيجة لمخططات استعمارية قديمة بدأت بحفر سلطات الاحتلال لآبار جوفية عميقة تضخ كميات هائلة من المياه لصالح المستعمرات وتستنزف الخزان الجوفي في المنطقة.

إلى جانب هذا الاستنزاف، يكمل المستعمرون دورهم بحرمان المزارعين من فرص الوصول إلى المياه السطحية المتبقية، من خلال تنفيذ اعتداءات يومية خلال توجههم إلى مصادر المياه، وملاحقة صهاريج نقل المياه، وتقطيع الخطوط البلاستيكية الناقلة التي يستخدمها المواطنون، بل وربط هذه الخطوط بمضخاتهم الخاصة، بحسب غوانمة.

وفي هذا السياق، تشير بيانات جهاز الإحصاء المركزي وسلطة المياه الفلسطينية تدني معدلات استهلاك المواطن الفلسطيني للمياه مقارنةً بالمعدل العالمي؛ إذ بلغ معدل استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في عام 2022 نحو 85.7 لترًا. ومع احتساب نسبة التلوث العالية في قطاع غزة، فإن حصة الفرد من المياه الصالحة للاستخدام تنخفض إلى 20.5 لترًا فقط يوميًّا.

وتوضح البيانات ذاتها تفاوتًا كبيرًا بين معدل استهلاك الفرد الفلسطيني والإسرائيلي، إذ يبلغ معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي 300 لتر يوميًّا، بينما يتضاعف هذا المعدل لدى المستعمرين الإسرائيليين إلى أكثر من سبعة أضعاف معدل استهلاك الفلسطيني.

ويُوضح مدير مديرية زراعة محافظة أريحا والأغوار أشرف بركات، لوكالة "وفا"، أن نبع العوجا يشهد تراجعًا متواصلًا في منسوب مياهه منذ سبع سنوات، بفعل الضخ الجائر للمياه من قبل المستعمرات، ما بات يهدد بشكل مباشر الوجود البدوي والتجمعات الفلسطينية في المنطقة.

ويشير بركات إلى أن تعديات الاحتلال تشمل تشغيل مضخات لسحب المياه لصالح المستعمرات، وحفر آبار ارتوازية عميقة لتغذيتها، وأسهم ضعف الموسم المطري الحالي، الذي تميز بتساقطات متفرقة ومبكرة التوقف، في تعميق أزمة النبع، الذي وصل إلى أدنى مستوياته خلال سبع سنوات. وكان المعتاد أن يتراجع النبع إلى هذا الحد في يوليو، وليس في أبريل ومايو كما حدث هذا العام.

ويرى بركات أن هذا الجفاف لا يعود لأسباب طبيعية فقط، بل هو أيضًا نتيجة مباشرة لعوامل مرتبطة بالاحتلال، لا سيما الضخ المفرط للمياه.

وتفيد بيانات مديرية زراعة أريحا بأن نبع العوجا يُعد مصدرًا رئيسًا للعديد من التجمعات السكانية الرعوية، مثل: والشلال، والنجادة الفوقا، والنجادة التحتا، والكعابة، والسويدات، والجراهيد، والصعايدة، والعطيات، والرومانين في محيط النبع. وتضم هذه التجمعات نحو 140 عائلة، وتعتمد عليه قرابة 13 ألف رأس ماشية، ونحو 8 آلاف دونم زراعي مزروعة بالخضروات أو بأشجار النخيل والموز.

أما خبير المياه صايل وشاحي، فيوضح أن نبع العوجا يتمتع بخصوصية تاريخية؛ لأنه من الينابيع الأثرية في فلسطين، وهو مستخدم تاريخيًّا وتقوم في محيطه التجمعات السكانية والحياة الرعوية والزراعية، ويصف النبع بأنه يصنف جيولوجيًا من الينابيع الكارستية الناتجة عن التكهفات داخل الصخور. وتتميز هذه الينابيع بتدفق مرتفع مع بداية فصل الشتاء، يتراجع تدريجيًا خلال الصيف. ويشير إلى أن النبع يضخ عادةً ما بين 1200 إلى 1500 متر مكعب في الساعة، وقد يصل في المواسم الجيدة إلى 2000، لكنه الآن يتراجع إلى 200-300 متر مكعب، وقد يصل للجفاف الكامل لاحقًا.

ويُضيف وشاحي أن انخفاض كميات الأمطار هذا العام، التي لم تتجاوز في بعض المناطق 50% من المعدل المعتاد، وهو ما أثر في رأس النبع، وانعكس مباشرة على تدفق مياه النبع.

وعن دور تعديات المستعمرين في حرمان سكان التجمعات الفلسطينية التي تعتاش من النبع وتعتمد عليه، يؤكد وشاحي أن هذه التعديات خاصة في الآونة الأخيرة لها تأثير كبير في المياه الجارية من النبع عبر الأودية، وتحول دون وصولها إلى المواطنين، إذ يعمل المستعمرون على تحويل مسار المياه لخدمتهم وإبعادها عن المجرى الرئيس الذي يصل إلى التجمعات السكانية والزراعية.

كل ذلك يضع المواطنين وخاصة المزارعين ومربي الثروة الحيوانية في وضع معيشي صعب؛ فالجفاف إضافة إلى كثرة التعديات رفعا كلفة البقاء والحصول على المياه.

وفي السياق ذاته، يشير الباحث في قضايا المياه والاستيطان وليد أبو محسن إلى أن نبع العوجا وينابيع المياه في الأغوار الفلسطينية تقع ضمن الحوض المائي الشرقي الذي يقع في معظمه ضمن أراضي الضفة الغربية. وضمن اتفاقية أوسلو، فإن حصة الفلسطينيين من المياه تبلغ 118 مليون متر مكعب سنويًا، يُحصل على نصفها من الحوض الشرقي وحده.

ويضيف أنه رغم نص الاتفاقيات على حصص الفلسطينيين من المياه، فإنهم لا يحصلون على هذه الحصص كاملة، وتتراجع فرص حصولهم على المياه عامًا بعد عام؛ إذ يُحرمون من مصادر المياه وتراجع الكميات المتاحة لهم؛ إما بسبب تعديات المستعمرين على مصادر المياه المتمثلة في الاستيلاء على الينابيع أو سرقة مسار المياه المتدفقة أو تحويلها، أو بسبب سياسات سلطات الاحتلال، مشيرًا إلى أن في منطقة الحوض الشرقي 42 بئرًا إسرائيلية تضخ حوالي 50 مليون متر مكعب من المياه سنويًا، وهذه الآبار تؤدي إلى استنزاف الخزان الجوفي في المنطقة، وتؤثر في فرص حصول الفلسطينيين على كميات المياه اللازمة لاحتياجاتهم.

وتسهم آبار الاحتلال المحفورة على أعماق كبيرة في استنزاف الخزان الجوفي في مناطق الأغوار، وهو ما أدى على مدار سنوات الاحتلال للمنطقة إلى جفاف نسبة كبيرة من الآبار الفلسطينية، وجفاف منسوب المياه في الينابيع التي يعتمد عليها المواطنون أو تقليله؛ ومن ثم حرمانهم من الحصول على حصصهم المنصوص عليها كاملة في الاتفاقيات؛ إذ لا يغطي ما تبقى من مصادر مياه احتياجهم لها، سواء للأغراض اليومية والشخصية أو للاحتياجات الزراعية والرعوية التي تشكّل عصب الحياة في مناطق الأغوار.

وعن جفاف نبع العوجا هذا العام، تطرق أبو محسن إلى العامل المناخي؛ إذ أدى ضعف الموسم المطري إلى عدم حصول الخزان الجوفي على التغذية الكافية من المياه.

وتطرق إلى الدور الكبير لممارسات الاحتلال في المنطقة في ذلك، ومنها كميات الضخ الكبيرة من الآبار الإسرائيلية، مؤكدًا أن جفاف النبع حدث في وقت مبكر من العام وقبل الوصول إلى ذروة فصل الصيف، وهذا ما يقود إلى الحديث عن الدور الأساسي لتعديات الاحتلال وممارساته بهذا الصدد.

وينوه إلى أن تعديات الاحتلال على مصادر المياه في منطقة الأغوار ومناطق الحوض الشرقي تنقسم إلى قسمين: تعديات سلطات الاحتلال المتمثلة في العدد الكبير من الآبار الإسرائيلية العميقة التي تؤدي إلى استنزاف المخزون الجوفي، وتحويل الاستفادة الكبرى منه للمستعمرات، واعتداءات المستعمرين المتمثلة في الاستيلاء على مصادر المياه الظاهرة على السطح، وحرمان المواطنين من الوصول إليها؛ وذلك عبر وضع مصايد المياه وتحويل مجراها الطبيعي كما يحدث في منطقة نبع العوجا، وتضاف إلى ذلك عمليات الردم والتدمير والاستيلاء والتسييج التي يقومون بها.

وتناولت دراسة سابقة للباحث تيسير جبارة توضح سيطرة الاحتلال على مصادر المياه في فلسطين، جاء فيها "أن سلطات الاحتلال استولت على أراضٍ فلسطينية كثيرة، حيث سيطرت على أهم مصادر المياه فيها؛ بحجة المحافظة على المناطق الطبيعية، وكانت الغاية الحقيقية استغلال مصادر المياه في ري الأراضي التي استولى عليها المستعمرون من الفلسطينيين وأقيمت عليها مستعمرات، حتى أصبح حوالي 90% من ينابيع الضفة الغربية خاضعًا لسيطرة الاحتلال الذي يسخرها وفق احتياجاته".

وتابعت الدراسة: "اهتمت سلطات الاحتلال بالسيطرة على المياه الجوفية؛ وذلك بعدم منح أي ترخيص لحفر آبار ارتوازية جديدة أو تعميق الآبار الارتوازية التي حُفرت قبل عام 1967م، كما حددت كميات المياه التي يُسمح باستخراجها من هذه الآبار؛ وذلك بتركيب عداد على كل بئر للمراقبة، كما منعت سلطة الاحتلال أكثر البلديات والسلطات المحلية من حفر ما يلزمها من آبار لغايات الشرب، بينما سمحت للمستعمرين باستغلال المياه الجوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ وذلك لري مزروعاتهم...".

وتناولت الدراسة منطقة العوجا التي كانت تزخر بمصادر المياه؛ بوصفها مثالًا على أزمة المياه في الضفة الغربية، إذ أشارت "أن منطقة العوجا قرب أريحا عانت منذ عام 1985م، إذ كان المزارعون يعتمدون في ري مزروعاتهم على ينابيع العوجا التي كانت تزودهم بـ17 مليون متر مكعب سنويًا، إضافة إلى عدد من الآبار الارتوازية، ولكن لجوء المستعمرات المجاورة إلى حفر آبار عميقة في المنطقة أدى إلى جفاف ينابيع العوجا من ناحية، ونضوب مياه الآبار الارتوازية العربية من ناحية أخرى، حتى أصبحت غير صالحة للاستعمال؛ بسبب ملوحتها...".

وتضيف الدراسة: "أما المستعمرات المحيطة بأريحا فقد سُمح لها بحفر آبار أكثر عمقًا وبالكمية التي يحتاجها المستوطنون. ونتيجة لعدم توافر مصادر لري المزروعات الفلسطينية، فقد اضطر مزارعو العوجا إلى إتلاف 90% مما لديهم من أشجار مثمرة، كما أُتلف 50% من الأشجار المتبقية عام 1987م، وأُتلفت مئات الدونمات المزروعة بالخضروات".

ووثقت سلطة جودة البيئة الفلسطينية، سلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة بحق البيئة الفلسطينية خلال الربع الأول من العام الحالي، شملت تدمير موارد المياه، وتخريب الأراضي الزراعية وإتلاف الأشجار، وضخ المياه العادمة، والاعتداء على الثروة الحيوانية، وتهريب النفايات الصلبة والخطرة إلى داخل الأرض الفلسطينية.

ورصد التقرير الصادر عن سلطة جودة البيئة، عشرات الاعتداءات في مختلف المحافظات الشمالية، حيث سُجل 15 اعتداءً على آبار المياه شملت تدمير آبار في جنين وطوباس والأغوار الشمالية والخليل وأريحا وقلقيلية ونابلس وردمها، إضافة إلى 4 اعتداءات استهدفت شبكات المياه في جنين ومخيمها، وخلة الضبع في مسافر يطا، ومنطقة فصايل شمال أريحا. ورصد التقرير 8 اعتداءات باستخدام المياه العادمة غير المعالجة؛ إذ عمدت المستعمرات الإسرائيلية إلى ضخ كميات كبيرة من المياه العادمة باتجاه الأراضي الزراعية الفلسطينية في قلقيلية وأريحا وبيت لحم والخليل، مما أدى إلى تلوث مساحات واسعة وإتلاف محاصيلها الزراعية.

وأكدت سلطة جودة البيئة في تقريرها أن هذه الممارسات والاعتداءات الإسرائيلية تشكّل انتهاكًا صارخًا للقوانين والاتفاقيات الدولية البيئية، وفي مقدمتها اتفاقيتا بازل والتنوع البيولوجي.

يُذكر أن الأغوار الفلسطينية تمتد على طول الحدود الشرقية للضفة الغربية، بمسافة تقدّر بـ120 كم وبعرض يتراوح ما بين (5-20 كم) حسب اقتراب أو بعد السلاسل الجبلية من نهر الأردن، وبذلك تشكل 28% من مساحة الضفة الغربية، بمساحة تقدر بنحو 1600 كيلومتر مربع، ويعيش فيها أكثر من 65 ألف مواطن فلسطيني.